لا جديد هذا العام فى الجدل المتكرر كل عام حول ثورة 25 يناير، وفى الأسئلة المُثارة عن طبيعتها وسياقاتها. ولا جديد كذلك فى الاتهامات المتبادلة بشأن من يتحمل المسئولية عن فشلها أو عدم تحقيق أهدافها.
جدل عقيم يتكرر فى مثل هذه الأيام كل عام، أو قل إنه يزداد ويتوسع فيها. وسيبقى كذلك ما لم يبادر من يتبادلون الاتهامات إلى إجراء مراجعات جادة لمواقفهم، بدلاً من التخندق فى مواقع لا يريدون مغادرتها. فالسؤال الذى يصح أن يُسأل الآن فى سياق السعى لتحديد مكمن الخطأ الذى تستمر الاتهامات المتبادلة بشأنه هو: هل كنا فى حاجة إلى ثورة عام 2011 بلا أى تصور أو خطة، وبدون أن يعرف أحد فى أى اتجاه سيتجه الوضع أو يؤخذ فى غياب أدنى استعداد لـ”اليوم التالى” لعزل الرئيس الراحل حسنى مبارك؟
الذهاب إلى مجهول!
تفيد تجارب الثورات والانتفاضات منذ الثورة الفرنسية عام 1789 أن أى سعى إلى تغيير جذرى، أو حتى كبير، فى غياب رؤية واضحة وبرنامج محدد للانتقال إلى وضع جديد إنما ينطوى على مخاطرة، وربما مغامرة. ويكون الانتقال، فى هذه الحالة، ذهابًا إلى المجهول بلا معالم واضحة. فالراغبون فى هذا التغيير يتفقون على ما لا يريدونه، فيما يختلفون على كل ما عدا ذلك بما فيه نظام الحكم الجديد وطابعه وخلفيته ومرجعيته. وتصبح المخاطرة-المغامرة أخطر حين تكون الخلافات واسعة على نحو يتعذر معه بناء توافق وطنى لا يمكن أن ينجح أى تغيير كبير بدونه، ويؤدى غيابه إلى ما لا يُحمد عقباه.
وهذا هو ما حدث منذ أن تنحى مبارك عن السلطة فى 11 فبراير 2011، وجنَّب مصر شرور الصدام العنيف. لم تمض أيام حتى انقلب مشهد التآزر بين دعاة التغيير، خلال وجودهم فى ميدان التحرير بين 28 يناير و11 فبراير، رأسًا على عقب وتحول إلى تنافر فتخاصم حمل فى طياته خطر التقاتُل.
وقد حدث مثل ذلك، وأكثر منه أحيانًا فى معظم حالات التغيير الذى حدث فى غياب رؤية واضحة ومتفق عليها. تختلف تفاصيل المشهد عقب كل تغيير جذرى يهدف إلى إسقاط نظام حكم فى غياب توافق الراغبين فى ذلك على نوع النظام الذى يليه وكيفية بنائه، وبدون حساب الصعوبات والعقبات التى سيواجهونها.
هل أخطأ أحد؟
بدت الصورة مساء 11 فبراير غائمة شديدة الغيوم. لا أحد لديه خطة. انساقت الأحزاب والجماعات والحركات السياسية مع التيار بلا هوادة. وعندما بات عليها أن تواجه الحقيقة الجديدة تبين أن مستوى النضج والوعى السياسيين لديها، وفى المجتمع عمومًا، كان أقل من أن يساعد فى حمل العبء الثقيل الذى لم يستعد أحد له.
وكان من الطبيعى والحال هكذا، أن يتعذر التفاهم على ملامح واضحة لمرحلة انتقالية قابلة للنجاح. لم يكن الوضع ناضجًا لتغيير كبير لأن التعارف بين الأطراف المختلفة، وخاصةً بين التيارين الإسلامى والمدنى-العلمانى لم يكن قد اكتمل. ولا يمكن تهوين أهمية هذا التعارف، الذى يتيح لكل طرف أن يعرف الآخر جيدًا كما هو، وليس من خلال صورة نمطية سلبية رسمها له. وهذا هو ما قصده الراحل العزيز أحمد فؤاد نجم عندما سخر من تنظيم الاتحاد الاشتراكى فى أغنية “يعيش أهل بلدى” التى قال فيها “يعيش أهل بلدى وبينهم مفيش/تعارف يخلي التحالف يعيش”. وقصد بذلك أن ما أُطلق عليه “تحالف قوى الشعب العامل” لا يستقيم بدون حوار حر لكى يتعارف أطرافه، ويعرف كل منهم الآخر، وبدون هذا التعارف: “تعيش كل طايفة من التانية خايفة/وتنزل ستاير بداير وشيش..”.
كان قد بُدئ فى هذا التعارف جديًا منذ ثمانينات القرن الماضى بعد نقاشات وحوارات غير منظمة، ولكنها وضعت أرضية يمكن البناء عليها لتحقيق تفاهم يقود إلى توافق على قضايا أساسية أهمها طبيعة الدولة ومرجعياتها ونوع النظام السياسى. ونُظمت بعد ذلك حوارات أُعد لها مسبقًا منذ مؤتمر النقابات المهنية عام 1994، الذى قدم كاتب السطور فيه ورقة عن ضرورة وجود ميثاق وطنى متفق عليه للإصلاح السياسى المبتغى. وأعقب ذلك المؤتمر حوارُ مهم استضافته جمعية “النداء الجديد”. وكنتُ قد سجلتُ أهم المؤتمرات والحوارات التى استهدفت بناء جسر بين التيارين الإسلامى والمدنى-العلمانى فى كتيب نُشر عام 2007 تحت عنوان: “الوفاق الوطنى والتحول الديمقراطى” وكتب مقدمته الصديق المهندس أبو العلا ماضى.
حقَّقت تلك الحوارات التى أُجريت على مدار نحو عقد ونصف العقد تقدمًا فى تحسين المعرفة المتبادلة. ولكن هذا التقدم لم يصل عام 2011 إلى المستوى الذى يتيح عملاً مشتركًا فى مرحلة انتقال متفق على ملامحها، وتفاعلاً صحيًا يُعلى قيمة المصلحة العامة على المصالح الصغيرة والضيقة. كان الأمر فى حاجة إلى مزيد من الوقت ليصل النضج السياسى إلى المستوى الذى يتيح بناء نظام ديمقراطى وتحقيق شعارات الثورة من عيش وحرية وعدالة اجتماعية وكرامة وطنية.
ويعنى هذا أن النخب السياسية فى 2011 لم تكن قادرة على تحقيق الآمال العريضة التى فتحت الثورة الباب أمامها, أو قل إن هذه الثورة جاءت قبل أوانها. ولو أنها لم تحدث لاستمرت عملية التعارف المتبادل, بالتوازى مع تواصل التوسع التدريجى للهامش الديمقراطى, ولما كانت هناك حاجة إليها عندما يصل هذا التوسع إلى مستوى يتيح انتقالاً ديمقراطيًا آمنًا.
ولكن أما وأنها حدثت قبل أوانها, فقد كان من الطبيعى أن تمضى الأمور فى طريق قاد إلى فشلٍ لم يكن ممكنًا تجنبه لغياب مقومات النجاح. ولهذا لا أجد معنى لاستمرار ااتهامات المتبادلة بالمسئولية عن الفشل بعد 14 عامًا كاملة، ولا لسعى كل طرف إلى إلقاء المسئولية على الآخر.
لا أحد أخطأ فى ذلك الوقت. كان الموقف أكبر من النخب السياسية التى لم تكن مهيأة له، ليس لأنها لم تستعد له فقط ولكن لأن مستوى تطورها وعيًا ونضجًا لم يكن يسمح لها بأن تنجح. وهذا هو المقصود بالقول إن أحدًا لم يخطئ. فالمخطئ هو من يحيد عن صواب كان فى متناوله أو نين يديه وأفلت منه. لكن أحدًا لم يكن فى استطاعته أن يفعل الصواب لأن مستوى النضج والوعى كان محدودًا. ففى ذلك الوقت لم يصل إلى هذا المستوى من التطور سوى نفر قليل هنا وهناك. ولم يكن فى استطاعتهم بناء الجسر المفقود بين التيارين الإسلامى والمدنى-العلمانى سواء فى الساحة السياسية أو فى كتابة الدستور. وفشلت محاولات تبناها بعض من سعوا إلى بناء هذا الجسر، وأهمها “التحالف الديمقراطى”.
والحال أن من لا يعرفون بعضهم جيدًا، ويخشى كل منهم الآخر، لا يستطيعون أن يتفاهموا ويعملوا معًا فى مرحلة انتقال واضحة المعالم تقود إلى تحقيق أهداف كبيرة مثل تلك التى تبنتها ثورة 25 يناير.
كان هذا هو بيت الداء، ومازال. وفى فهمه بداية الدواء.