يقف المتأمل في حال المجتمع المصري اليوم حائراً أمام تحولات عميقة طرأت على النسيج الاجتماعي لأعرق الشعوب وأكثرها تمسكاً بقيم التسامح والتعايش على مر العصور.

فالمجتمع المصري، الذي طالما كان نموذجاً للتعددية والانفتاح على الآخر، يشهد تحولات جذرية في منظومته القيمية والأخلاقية، تستدعي وقفة تأمل وتحذير .

تتجلى هذه التحولات في ثلاث ظواهر رئيسية تشكل تهديداً حقيقياً للنسيج الاجتماعي:
خطاب الكراهية الذي يتنامى بشكل مقلق، وانتهاك الخصوصية الذي أصبح سمة من سمات العصر الرقمي، والتنمر الذي تحول من سلوك فردي إلى ظاهرة مجتمعية.

يمثل خطاب الكراهية تحولاً خطيراً في المجتمع المصري المعاصر. فالمجتمع الذي عُرف تاريخياً باحتضان التنوع والاختلاف، أصبح اليوم ساحة لصراعات فكرية وأيديولوجية حادة. ويرجع هذا التحول إلى عوامل عميقة تتجاوز السطح الظاهر للأحداث.

فالتحولات الاقتصادية العميقة التي يشهدها المجتمع، وما نتج عنها من ضغوط معيشية وإحباطات متراكمة، خلقت حالة من الاحتقان المجتمعي.
هذا الاحتقان، الذي يجد في وسائل التواصل الاجتماعي منفذاً للتعبير عن نفسه، يتحول تدريجياً إلى خطاب كراهية موجه ضد الآخر المختلف، سواء كان هذا الاختلاف في الرأي أو المعتقد أو المستوى الاجتماعي.

أما ظاهرة انتهاك الخصوصية، فتعكس تحولاً عميقاً في مفهوم الحدود الشخصية والاجتماعية في المجتمع المصري. فالمجتمع الذي كان يقدس الخصوصية ويحترم حرمة الحياة الشخصية، أصبح اليوم مسرحاً لانتهاكات يومية للخصوصية بدعوى حرية التعبير أو التوثيق أو حتى التسلية.
وتكشف هذه الظاهرة عن خلل عميق في منظومة القيم المجتمعية، حيث تراجعت قيم احترام الآخر وحقوقه الشخصية لصالح ثقافة الفضح والتشهير والتدخل في خصوصيات الآخرين.

ويأتي التنمر كظاهرة ثالثة تعكس تحولاً خطيراً في طبيعة العلاقات الاجتماعية. فالمجتمع المصري، الذي عُرف بقيم التكافل والتراحم، يشهد اليوم تصاعداً في سلوكيات التنمر بأشكاله المختلفة. ويكشف تحليل هذه الظاهرة عن أزمة عميقة في التنشئة الاجتماعية والتربوية، حيث تراجعت قيم التعاطف والتراحم لصالح ثقافة القوة والسيطرة والتسلط على الضعيف.

إن هذه الظواهر الثلاث تكشف عن تحول عميق في البنية النفسية والاجتماعية للمجتمع المصري. فالمجتمع يمر بمرحلة انتقالية صعبة تتصارع فيها القيم التقليدية مع متطلبات العصر الرقمي وضغوطه.
وفي خضم هذا الصراع، تتراجع القيم الإيجابية التي طالما ميزت المجتمع المصري لصالح سلوكيات وممارسات سلبية تهدد تماسكه واستقراره.

لكن الأمل يبقى قائماً في إمكانية تجاوز هذه المرحلة الصعبة. فالمجتمع المصري يمتلك من المناعة الثقافية والقيمية ما يمكنه من تجاوز هذه التحديات.
غير أن هذا يتطلب عملاً جاداً على المستوى التربوي والثقافي والإعلامي لإعادة إحياء القيم الإيجابية وتعزيز ثقافة الحوار والتسامح واحترام الآخر.

إن المطلوب اليوم هو إعادة النظر في منظومة القيم المجتمعية بشكل شامل، والعمل على تطوير خطاب ثقافي وإعلامي يعزز القيم الإيجابية ويواجه الظواهر السلبية.
كما أن هناك حاجة ماسة لتطوير البرامج التربوية والتعليمية لتعزيز قيم التسامح واحترام الخصوصية والتعاطف مع الآخر.

واخيرًا ؛ فإن ما يحدث للمصريين اليوم هو جزء من تحول مجتمعي أشمل يتطلب وعياً عميقاً بأبعاده ومخاطره، وعملاً جاداً لتوجيهه نحو المسار الصحيح.

فالمجتمع المصري، بما يمتلكه من تراث حضاري وثقافي عريق، قادر على تجاوز هذه المرحلة الصعبة والعودة إلى نموذجه التاريخي في التسامح والتعايش واحترام الآخر.
طارق العوضي

. .2ynz